الاثنين، 19 يونيو 2023

عن ديواني الجنيد

 كتب الدكتور منصور العمراني


"عزف وأنين"

"رنين أجراس'

هما ديوانا شعر يحملان في طياتهما حب وألم، واقع متخم بالمتناقضات، وأجراس صاخبة تصم الآذان...وهذا هو واقع أمتنا العربية والإسلامية الذي أراد شاعرنا أن يصوره من خلال عناوين إصداراته الشعرية.

له غير هذا نظم "لفقه السنة للشيخ سيد سابق" لا أدري أين وصل فيه؟ وله نظم للميثاق الوطني الذي كان يحمل في طياته عز شعب ورقي أمة، وله نظم في النحو لكتاب " قطر الندى وبل الصدى"

أتحدث عن شاعرنا الكبير وأديبنا القدير الأستاذ المفكر الكاتب السياسي الملهم الشيخ مطهر أحمد الجنيد النور

.. عضو اتحاد الأدباء اليمنيين...من أبناء محافظة الحديدة- مديرية جبل رأس.

رجل الفكر والتنوير في الثلث الأخير من القرن العشرين والعقد الأول والثاني من الألفية.

سياسي عالم دخل باب السياسة بعلم ودهاء وذكاء فكان عرَّاب السياسة بحق...عكس الجهلاء الذين يخوضون غمار السياسة والسلطوية فيفشَلون ويُفشِلون.

أتحدث عن أستاذنا الكبير مطهر أحمد الجنيد كوني تتلمذت على يديه صغيرا بحكم قربي منه قلبا ومكانا، فكنت أحد أبنائه لا نفارقه ليلا ولا نهارا.

عرفته وأنا طفل  في السابعة من العمر، فقد جمعني به ظرفا الزمااان والمكان...حيث دخلت المدرسة الابتدائية وسكنت مع جدتي رحمها الله أم والدتي فكنتُ جار تماس لأستاذنا الكبير، فصرت أحد أولاده،  بل مهندس أوراقه وأحباره على طاولة الكتابة في مقيله ومسمره....

كانت حياته بسيطة وجميلة لا ترى فيها الغرور ولا الكبرياء عكس من هم دونه بكثير من الوجاهات...ولذلك كنا أطفالا نأنس بالجلوس معه وهو يحدثنا ويمازحنا كأنه طفل مثلنا...لكن في الوقت نفسه كان صارما إن صدر منا شيئا لا يليق بالتعامل مع الكبار، فكان تربويا ناجحا في التوجيه والإعداد...كان وقته الصباحي يتسم بالهزل والمزاح واللعب بالشطرنج مع الكبار والصغار من يصادف حضوره في ذلك الوقت، ويتسم في نفس الوقت بالجد والحنكة في حل مشاكل الكبار وهذا ديدنه حتى بعد تناول وجبة الغداء...ثم يبدأ مقيله الحافل بالناس من كل مكان كلٌ يبغي وجهته ومراده منه.

فكنت أنا أقوم بإعداد أوراقه المسطرة على المنضدة الصغيرة التي أمامه وأملأ قلمه بالحبر الأسود من محبرته التي كان يجلب منها الكثير لتغطية كتاباته، فهو لا يروق له الكتابة بالأقلام الجافة.

كان مقيله يتسم بالجدية المفرطة عكس ما نراه في الصباح إلى الظهيرة...ويناقش الناس في بغيتهم ..ثم يتخلل المقيل قراءة كتاب ما في السيرة أو عرض كل جديد من انتاج شعري أو أدبي له...ومن العصر يبدأ في الغوص مع أوراقه وأفكاره حتى إنه لا يكاد يبين، ولا تسمع إلا همس قلمه السيال وبنانته الصغرى التي يسحبها فوق الورقة خلف القلم وما رأيت من قبل ولمَّا أرَ إلى اليوم من يفعل ذلك، ولا يتكلم إلا لضرورة أو حاجة تستدعي ذلك، فكل فكره  مع أوراقه وقلمه وسيجارته الفاخرة (روثمان) والتي كنا نحضرها له بالطَّب أو ما تسمى عند الموالعة ب( العروسة) والتي كان يشربها بنهم وكثرة .. يمتلك قلما سيالا في المعرفة ربما يكتب كراسة في مقيله ومسمره...وكلما انتج شيئا جديدا من الشعر أسمع الحاضرين حتى نحن الأطفال كان يُسمِعنا كأننا كبارا وهذه لفتة تربوية في بناء الثقة لدى النشء.

كنت أرتب أوراقه وأحملها معه من مكان جلوسه إلى خلوته الخاصة، ومن خلوته إلى مجلسه، بل أعرف كل ورقة وما تحتوي من بيان...كان يقرأ في ملامحي الطالب النابه المجد المثابر فيشجعني ويفرح حين يرى المدرسين المصريين يشيدون بتفوقي...أذكر حينما كنت في الصف السادس الابتدائي وكان نظام الاختبارات آنذاك وزاري لا نعرف الغش من قريب ولا بعيد...المناهج عملاقة والمدرسون عمالقة...فقد قمنا آنذاك بمسابقة بين مدرستنا (مدرسة النجاح)  ومدرسة عمر بن العزيز في عزلة بني حاتم ...وحدد مكان المسابقة في مدرستنا مدرسة النجاح...وكان الحشد والإعداد لهذه المسابقة كأنه اليوم حدث رياضي لكأس العالم...ما سمع بهذا الموعد أٌحد إلا وحضر يشاهد هذه المواجهة العلمية التي ستشهدها ساحة مدرسة النجاح في المجارين.. وكانت المسابقة التي تجمع فريقين كل واحد منهما يشبه الآخر في القوة والمقاومة...ورجال الحكم هم الأساتذة المصريون...ومدير مدرستنا العلامة الاستاذ أحمد فقيه محمد عرجاش الذي لنا معه حديثا مستقلا بإذن الله عبر صفحتنا، وصاحب مقالنا هذا الاستاذ مطهر الجنيد.

كنت أنا الفقير الله المتحدث باسم زملائي في مدرسة النجاح وصاحب الرد المباشر على الأسئلة.. وكانت المسابقة بين فريقين صنوين تخالهما نهر يتدفق بالمعرفة والعلم...وفي آخر سؤال لم يحالف الحظ الناطق باسم مدرسة عمر بن العزيز، وأنا أجبت الإجابة الصائبة فتقدمنا نحن وهم تأخروا - وللأمانة العلمية أنهم اخفقوا في السؤال بسبب المعلومة الخاطئة التي تلقوها من مدرسهم في مادة العلوم وهو كان يظن أنها صحيحة، ولذلك وثب مدرسهم المصري للدفاع عن إجابة طلابه لكنه انصدم حين عرض له أستاذنا المصري صلاح ماهر إبراهيم حفظه الله إن كان على قيد الحياة، ونسأل الله له الرحمة إن كان قد أفضى إلى ربه، لأني زرته في 2008م إلى مدينته المنصورة وظل التواصل بيننا حتى 2012م وقد سألت عنه قبل فترة وجيزة عن طريق الإعلامي المصري أمير صلاح فأبلغني بوفاته- فلما عرض أستاذنا المعلومة الصحيحة من الكتاب لزميله  المصري أصيب بالدهشة لكن السؤال قد ضاع عليهم- وارتفعت الهتافات والفرحة حتى قام الأستاذ مطهر الجنيد ورفعني إلى الهواء فوق كتفه ومعه الجماهير الكثيرة وأهداني طبقا ذهبيا بداخله قلمين ذهبيين أحدهما يعمل بالحبر الجاف والآخر يتم تعبئته بالمداد السائل...ما زلت أتذكر تلك الفرحة التي غمرتني في ذلك اليوم والشهرة التي حظيت بها مما زادني ثقة ونبوغا وهمة عالية وطموحا بلا حدود...

بعد هذه الفترة انتقلت إلى زبيد وابتعدت عن أستاذي مطهر أحمد الجنيد، لكنه بُعدٌ تتخلله لقاءات كلما جاء زبيد أو جئت أنا إلى الجبل...وكان يوافيني بكل جديد ينجزه حين يلتقيني أو ألتقيه...وبدأت مرحلة السياسة المحمومة حينذاك بعد دخول الحزبية والتعددية السياسية التي أفضت بنا اليوم إلى ضياع وطن وتشرذمه.

وجاء شعر الهجاء والنقائض في هذه الفترة بين شاعرنا صاحب الترجمة وغيره من خصوم السياسة، فكانت الأقلام صاخبة بين طرفي المبارزة وكأننا نعيش نقائض جرير والفرزدق.

لكن السمة الغالبة هو الاحترام والتقدير والاختلاف والاتفاق وهذه هي سمة الكبار.

أما الحديث عن الأستاذ مطهر أحمد الجنيد المسؤول فقد تولى منصب رئيس مجلس التعاون حين أنشئت التعاونيات في سبعينات القرن الماضي إبان حكم الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي رحمه الله وامتد عملها حتى الثمانينات وكانت من نتائجها شق طريق قمة جبل رأس التي وصلت للقمة، وهو منجز كان حلم بالنسبة للناس  حيث كانوا يحملون أمتعتهم وأغراضهم على رؤوسهم من الأسواق إلى قمة الجبل، فكانت الطريق باكورة خير تنفس معها المواطنون الصعداء، وأصبحت السيارات ذات الدفع الرباعي تصل إلى قمة الجبل، وقد صاحب هذا المشروع خلافات بين العزل، انتهى بالتصالح والنجاح.

كان التفاف الناس حول الأستاذ الشيخ مطهر أحمد الجنيد التفاف السوار بالمعصم فالجميع يؤمنون بقدرة الرجل السياسية والعلمية، ولذلك كانت قمة الجبل عبارة عن أسرة واحدة يصعب اختراقها أو تمزيقها، ولهذا السر استطاعوا التصدي لحركة التمرد التي قادها الناصريون في عام 1980/ 1982م لإسقاط الحكم.....ولو جاءت هذه الجبهة بعد عام 90م لمهدت لها الطريق بسبب الخلاف الحزبي الذي عصف بالأسرة الواحدة.

ومما تسعفني الذاكرة حينما كنت في الصف الخامس في عام 87/ 88م وصلنا خبر زيارة مرتقبة لضيف كبير يزور قمة جبل رأس، وهو قائد عسكري برتبة عقيد ركن يعمل قائدا للواء الخوخة، وكانت زيارته لا أدري ما هو الغرض منها، لكنني أذكر ذلك الاستعداد الذي قمنا به من زوامل وقصائد وأناشيد بقيادة أستاذنا الكبير مطهر أحمد الجنيد ومعه الأستاذ العلامة أحمد فقيه محمد عرجاش، وكوكبة من أعيان القمة، وكان الطلب الذي أراد أهل القمة أيصاله لذلك القائد العسكري هو بناء مدرسة بمواصفات حديثة في مكان يستوعب جميع العزل...ولما كبرت وعقلت سألت نفسي  ما علاقة قائد عسكري ببناء مدرسة أو شق طريق؟ فهذا عمل المحافظ ووزارة الأشغال...لكن المجتمع الغريق يتعلق بقشة.....وجاء اليوم الموعود لتلك الزيارة حيث كنت أحد المرافقين لأستاذي الشيخ مطهر الجنيد في سيارته التي كانت تابعة للمجلس المحلي ووصلنا إلى الكولة حيث كان هناك نقطة عسكرية نظامية تقوم بالإجراءات الأمنية كون العهد قريب بحرب الجبهة...ووصل مشائخ وأعيان جبل رأس من كل حدب وصوب للمشاركة في هذا الاستقبال المهيب، وللأمانة أن الجميع مسلم للشيخ مطهر زمام القيادة فهو القائد بلا منافس...ووصل ذلك الجنرال ترافقه عشرات الأطقم المسلحة ...وما إن وصل كانت النقطة العسكرية في استقباله بنظام عسكري مرتب ..كنت أول مرة أشاهد ذلك الشرف العسكري المهيب....وانطلقنا نحو القمة يتقدم الوفد الكبير الشيخ مطهر ونحن معه وتمت الزيارة لعزلة الندافا ثم العساكرة مرورا ببني حاتم ثم عاد عبر طريق أجنة - المجارين ..وهناك تم العرض الطلابي أمامه في المدرسة الأم (مدرسة النجاح)...وزار كل مكان تصله السيارة سواء عريج أو شعب الصراحي. ..ثم عاد لبيت الشيخ مطهر وكل العزل حاضرة برجالها ومشائخها وتمت الضيافة الكبرى لقائد عسكري كبير ترافقه عشرات الطقومات...لكن كانت قمة الجبل أسرة واحدة فالقات يتدفق من كل حدب وصوب...ولا أدري عن طبيعة النقاش الذي دار في المقيل المزدحم الذي لا يدخله إلا المشائخ وكبار المرافقين لذلك المسؤول...وخرج بعد صلاة العصر ليجلس في الهواء الطلق بجانب سكن المدرسين وليستمع لكلام المشائخ بعد أن وعدهم بتنفيذ مدرسة في مكان يرضي الجميع...وفي الهواء الطلق استطعت الوصول إلى جانبه وأنا طفل قد اعددت ورقة بخط قلمي شجعني وكتب بعض كلماتها المرحوم محمود عبدالوهاب عبدالرزاق  رحمه الله...وبكل شجاعة وقفت أمامه مرحبا به وبكل ضيوف جبل رأس الشرفاء، وقد انبهر الرجل بالإلقاء فأصغى سمعه لي وفكره، وطلبت منه حاجتنا لمدرسة تستوعب الأجيال وستكون بصمة تاريخية له...ثم قلت له: وإني أحملكم المسؤولية الكاملة إن لم تنجزوا ما وعدتم به...وهذه كانت عبارة الوالد محمود عبدالوهاب رحمه الله أمرني بكتابتها فهو يميل للخشونة في الطلب...وما إن ذكرتها حتى وثب الرجل من على الكرسي واقفا لم يرحم طفولتي البريئة مخاطبا لي: عادك تحملني المسؤولية.. من ضحك عليك تقل لي هذا يا ولدي؟...خلي المحافظ يتحمل المسؤولية...ارتعشت رجلاي من الرهبة والخوف..ولم أنبس ببنت شفة...وعلمت بأني قد وقعت في فخ كبير...ومشى من مكانه ولم يتوقف.. ولم أعلم ماذا قال للكبار...أعجب استاذي مطهر بهذه الجرأة التي أبديتها وقال لي: لا تخف.

وفشل ذلك المشروع لأن المشايخ تنازعوا حول المكان... ولأن القائد العسكري يعلم جيدا أن هذا ليس من اختصاصه.

عمل بعد قيام الوحدة اليمنية ونشوء التعددية السياسية رئيسا للمؤتمر الشعبي العام - مديرية جبل رأس وما زال إلى يومنا هذا. 

وفي الأخير أشعر بالتقصير وأنا أكتب عن هذه المرحلة ...مرحلة التجلي والنبوغ لأستاذنا الكبير، رائد التنوير في قمة جبل رأس وسهله، الأستاذ الشيخ الأديب مطهر أحمد الجنيد، وما عساي أن أسطر عن علم من أعلام اليمن الكبار...ودرة من درر جبل رأس الأشم...وأنا الصغير بجانب الكبار.

(وابن اللبون إذا ما لز في قرن

   لم يستطع صولة البزل القناعيس)


د.  منصور العمراني

28/ 11/ 1444للهجرة. 

17 /6/ 2023م

هناك تعليق واحد:

لا حب هنا

 ‏‎لا حب هنا محمد شنيني بقش قد تتمايز أو تتغاير تسمية المحبوب و تسمية المبغوض و قد تتناوب تارات ايضا او قد تقتضى المصلحة شيئا من تجميل المبغ...